فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} مجازٌ عن عدمِ الاكتراثِ بهلاكِهم والاعتدادِ بوجودِهم، فيهِ تهكمٌ بهِم وبحالهم المنافيةِ لحالِ من يعظمُ فقدُه فيقال له بكتْ عليه السماءُ والأرضُ، ومنْهُ (ما رُويَ إنَّ المؤمنَ ليبكي عليه مُصَّلاهُ ومحلُّ عبادتِه ومصاعدُ عملِه ومهابطُ رزقِه واثارُه في الأرضِ)، وقيلَ: تقديرُه أهلُ السماءِ والأرضِ.
{وَمَا كَانُواْ} لمَّا جاءَ وقتُ هلاكِهم {مُّنظَرِينَ} ممهلينَ إلى وقتٍ أخرَ أو الى الآخرة، بلْ عُجِّلَ لهم في الدُّنيا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
سورة الدخان:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) كلمة من ذكرها نال في الدنيا والعقبى بهجته، ومن عرفها بدل في طلبها مهجته.
كلمة إذا استو لت على قلب عطلته عن كل شغل، كلمة إذا واظب على ذكرها عبد أمنته من كل هول.
قوله جل ذكره: {حم والكتاب المبين} الحاء تشير إلى حقِّه؛ والميم تشير إلى محبته. ومعناه: بحقي وبمحبتي لِعِبادي، وبكتابي العزيز إليهم: إنِّي لا أُعِذِّبُ أهل معرفتي بفرقتي.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}.
{فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}: قيل هي ليلة القَدْر، وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصَّك. أنْزَلَ القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلَّ سَنَةٍ بمقدار ما كان جبريلُ ينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وسمَّاها: {لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} لأنها ليلة افتتاح الوصلة. وأشدُّ الليالي بركةً ليلةٌ يكون العبدُ فيها حاضرًا، بقلبه، مشاهدًا لربَّه، يتَنَعَّمُ فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة.
وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا:
لا أظْلِمُ الليلَ ولا أدَّعي ** أنَّ نجومَ الليل ليست تزو ل

لَيْلِي كما شاءت: قصيرٌ إذا ** جادَتْ، وإن ضنَّتْ فَلَيْلِي طويلُ

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكٍيمٍ} يكتب من أمِّ الكتاب في هذه الليلة ما يحل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرِّ، في المحن والمِنَنِ، في النصر والهزيمة، في الخصب والقحط.
و لهؤلاء القوم (يعني الصوفية) أحوالٌ من الخصب والجدب، والوصل والفصل، والوفاق والخلاف، والتوفيق والخذلان، والقبض والبسط. فكم مِنْ عبدٍ ينزل له الحكم والقضاء بالبُعْدِ والشقاء، واخر ينزل حكمه بالرِّفد والوفاء.
{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}.
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}: وهي الرسول- صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله عليه: «أنا رحمة مهداة».
ويقال: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} رحمةً لنفوسُ أوليائنا بالتوفيق، ولقلوبهم بالتحقيق.
{إِنَّهُ هو السميع الْعَلِيمُ}: {السميع} لأنين المشتاقين، {العليم} بحنين المحبين.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)}.
مالك السموات والأرضين، ومالك ما بينهما- وتداخل في ذلك اكسابُ العباد.
وتَمْلُّكُها بمعنى القدرة عليها، وإذا حَصَلَ مقدورٌ في الوجود دَلَّ على أنه مفعوله؛ لأن معنى الفعل مقدورٌ وجِدَ.
قوله جلّ ذكره: {لا إِلَه إِلاَّ هو يُحىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ ورَبُّ ءَآبائكم الأولين}.
هذه الكلمة فيها نَفْيُ ما أثبتوه بجهلهم، وإثباتُ ما نَفَوْه بجحدهم.
{رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَآبائكم الأولين}: مُرَبِّي أصْلَكُم ونَسْلَكُمْ.
قوله جل ذكره: {بَلْ هُمْ في شَكٍّ يَلْعَبُونَ}.
اللَّعِبُ فِعْلٌ يجري على غير ترتيبٍ تشبيهًا باللُّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص؛ فَوَصَفَ المنافقَ باللَّعبِ؛ وذلك لتردُّدِه وتحيُّرِه نتيجةَ شكِّه في عقيدته.
قوله جل ذكره: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينَ}.
هذا من اشراط الساعة؛ إذ يتقدم عليها.
وقيامة هؤلاء (يقصد الصوفية) معجَّلة (أي تتم هنا في هذه الدنيا) فيومُهم الذي تأتي السماء فيه بدخان مبين هو يوم غيبةِ الأحباب، وانسداد ما كان مفتوحًا من الأبواب، أبوابِ الأنسِ بالأحباب في معناه قالوا:
فما جانبُ الدنيا بسَهْلٍ ولا الضُّحى ** بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياةٍ بباردِ

قوله جل ذكره: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وعذابُ هؤلاء (يقصد الصوفية) مقيمٌ في الغالب، وهو عذابٌ مُسْتَعذْبٌ، أولئك يقولون:
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}.
وهؤلاء يستزيدون- على العكس من الخَلْق- العذاب، وفي ذلك يقول قائلهم:
فكلُّ ماربي قد نِلْتُ منها ** سوى ملذوذِ وجدي بالعذاب

فهم يٍسألون البلاََءَ والخَلْقُ يستكشفونه، ويقولون:
أنت البلاءُ فكيف أرجوكَشْفَه ** إنَّ البلاَءَ إذا فَقَدْتُ بلائي

{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رسول مُبِينٌ (13)}.
إن خالفوا دواعي قلوبهم من الخواطر التي تَرِدُ من الحقِّ عليهم عوقبوا- في الوقت بما لا يتَّسعُ لهم ويُسْعِفهم، فإذا أخذوا في الاستغاثة يقال لهم: أنَّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول على قلوبكم فخالفتم؟!
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
حيث نورثكم حزنًا طويلًا، ولاتجدون في ظلال انتقامنا مقيلًا.
قوله جل ذكره: {ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكَمْ رسول أَمِينٌ}.
فتَنَهم بعد ما أصَرُّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم.
{وَجَاءهُمْ رسول كَرِيمٌ}: يطالبهم بإزالة الظلم عن بني إسرائيل، وأن يستبصروا، واستنفرهم لله، وأظهر الحُجَّةَ من قِبَلِ الله.
{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَبَعُونَ}.
أمَرَه بأن يَسْرِيَ بعباده المؤمنين، وعرَّفهم أنهم سيُنْقَذون، وأنَّ عدوَّهم {جُندٌ مُّغْرَقُونَ}.
قوله جل ذكره: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}.
ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم.
{كَذِلَكَ وأورثناها قَوْمًا ءَآخرين}.
وأسْكَنَّا قومًا آخرين في منازلهم ودورهم.
قوله جل ذكره: {فَمَا بَكَتْ عَليْهِمُ السَّمَاءُ والأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}.
لم يكن لهم من القَدْرِ والخَطَرِ ما يتحرك في العالَم بِسببَهم ساكنٌ، أو يسكن متحركٌ فلا الخضراء بسببهم اغبرَّتْ، ولا الغبراءُ لغيبتهم اخضَّرتْ. لم يبقَ منهم عينٌ ولا أثر، ولم يظهر مِنْ قِبَلِهم على قلبِ أحدٍ من عبادِنا أثرٌ. وكيف تبكي السماءُ لفقْدِ من لم تستبشر به من قَبْلُ؟ بعكس المؤمن الذي تُسَرُّ السماءُ بصعود ِعمله إليها، فإنها تبكي عند غيابه وفَقْدِه. اهـ.

.تفسير الآيات (30- 39):

قوله تعالى: {ولقد نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) ولقد اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتيناهم مِنَ الآيات مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقولونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائنا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمرًا باهرًا لا يكاد يصدق فضلًا عن أن يكون بإهلاك أعدائهم، أكد سبحانه الإخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيهًا على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالًا وأنهم في قبضتهم فقال: {ولقد نجينا} أي بما لنا من العظمة (تنجية عظيمة) مع كونها بسبب الآيات المتفرقات كانت على التدريج {بني إسرائيل} عبدنا المخلص لنا {من العذاب المهين} بسبب أنهم كانوا عندهم في عداد العبيد يتسخدمون الرجال والنساء بل أذل للزيادة على التصرف العبيد بالتذبيح للأبناء.
ولما تشوف السامع إلى صاحب ذلك العذاب قال مبدلًا مما قبله إفهامًا لأن فرعون نفسه كان عذابًا لإفراطه في أذاهم: {من فرعون} ثم علل ذلك بما يعرف منه صحة الوصف للعذاب فقال مؤكدًا لأن حال قريش في استذلال المؤمنين حل من يكذب بأن الله أنجى بني إسرائيل على ضعفهم فهو ينجي غيرهم من الضعفاء أو يكذب أن فرعون كان قويًا {إنه كان عاليًا} في جبلته العراقة في العلو {من المسرفين} أي العريقين في مجاوزة الحدود.
ولما كانت قريش تفتخر بظواهر الأمور من الزينة والغرور ويعدونه تعظيمًا من الله ويعدون ضعف الحال في الدنيا شقاء وبعدًا من الله، رد عليهم قولهم بما أتى بني إسرائيل على ما كانوا فيه من الضعف وسوء الحال بعد إهلاك ال فرعون بعذاب الاستئصال، فقال مؤكدًا لاستبعاد قريش أن يختار من قل حظه من الدنيا: {ولقد اخترناهم} أي فعلنا بما لنا من العظمة في جعلنا لهم خيارًا فعل من اجتهد في ذلك، وعظم أمرهم بقوله بانيًا على ما تقديره: اختيارًا مستعليًا {على علم} أي منا بما يكون منهم من خير وشر، وقد ظهر من اثاره أنكم صرتم تسألونهم وأنتم صريح ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام عما ينوبكم وتجعلونهم قدوتكم فيما يصيبكم وتضربون إليه أكباد الإبل، وهكذا يصير عن قليل كل من اتبع رسو لكم- صلى الله عليه وسلم- منكم ومن غيركم.
ولما بين المفضل، بين المفضل عليه فقال: {على العالمين} أي الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتاب وأرسلنا إليهم من الرسل.
ولما أعلم باختيارهم، بين اثار الاختيار فقال: {وآتيناهم} أي على ما لنا من العظمة {من الآيات} أي العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه الصلاة والسلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين لشرعه عليهم الصلاة والسلام {ما فيه بلاؤا} أي اختبار مثله يميل من ينظره أو يسمعه أو يحيله إلى غير ما كان عليه، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع، وفي هذا ما هو رادع للعرب عن بعض أقوالهم من خوف التخطف من العرب والفقر لقطع الجلب عنهم وغير ذلك {مبين} أي بين لنفسه موضح لغيره، وما أنسب هذا الختم لقوله أول قصتهم {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون}.
ولما ثبت بما مضى أنه سبحانه متصف بالإحياء والإماتة، وكان إنكار ذلك عنادًا لا يستطيع أحد يثبت الإله أن ينكره، وكان الإقرار بذلك في بعض وإنكاره في بعض تحكمًا ومخالفًا لحاكم العقل وصارم النقل، وكان من الآيات التي أوتوها إحياؤهم بعد إماتتهم حين طلبوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة، وحين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان ذلك هو البعث بعينه، وكان العرب ينكرونه ويبالغون في إنكارهم له ولا يسألونهم عنه، قال موبخًا لهم مشيرًا بالتأكيد إلى أنه لا يكاد يصدق أن أحدًا ينكر ذلك لما له من الأدلة: {إن} وحقرهم بقوله: {هؤلاء} أي الأدنياء الأقلاء الأذلاء {ليقولون} أي بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الأنكار في نظير تأكيد الإثبات: {إن} أي ما.
ولما كان قد تقدم قوله تعالى: {يحيي ويميت} وهم يعلمون أن المراد به أن يتكرر منه الإحياء للشخص الواحد، وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه {وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة: 28] أي بالأنتشار بعد الحياة وقال: {أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [غافر: 11] قالوا: ما {هي إلا موتتنا} على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا {الأولى} أي التي كانت قبل نفخ الروح- كما سيأتي في الجاثية {إن هي إلا حياتنا الدنيا} وعبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبة لها منه، وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى، فحط الأمر على أن الابتداء كان من موت لم يتقدمه حياة، والقرار يكون على حياة لا يعقبها موت.
ولما كان المعنى: وليس وراءها حياة، أكدوه بما يفهمه تصريحًا فقالوا برد ما أثبته الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما نحن} وأكدوا النفي فقالوا: {بمنشرين} أي من منشر ما بالبعث بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره- إذا أحياه.
ولما كانوا يزعموه أن دعوى الإحياء لا يصح إلا إذا شاهدوا أحدًا من الأموات الذين يعرفونه حيًا بعد أن تمزق جلده وعظامه، سببوا عن إنكارهم مخاطبين للنبي- صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه: {فأتوا} أي أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت إيذانًا بأنهم لا يصدقون بذلك وإن كثر معتقدوه من جنس بشرهم وتبعهم {بآبائنا} أي لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم فلا نشك في أن ذلك إحياء لمن مات ليكون ذلك آية لنا على البعث، وأكدوا تكذيبهم بقوله: {إن كنتم صادقين} أي ثابتًا صدقكم.
ولما أخبروا على هذه العظمة تنطعًا لأنها لو وقعت لم يكن بأدل على ثبوت النبوة المستلزمة لتصديق كل ما يقول لهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما يأتيهم به من الآيات، غير خائفين من الله وهم يعلمون قدرته وإهلاكه للماضين لأجل تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكأنهم يدعون خصوصيته في مكنة من عين أو معنى ينجون بها من مساواة من قبلهم في ذلك، فقال تعالى منكرًا عليهم: {أهم خير} أي في الدين والدنيا {أم قوم تبع} أي الذين ملك بهم تبع الأرض بطو لها والعرض وحيرة الحيرة وبنى قصر سمرقند وكان مؤمنًا، وقومه حمير ومن تبعهم أقرب المهلكين إلى قريش زمانًا ومكانًا.
وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار، وقال الرازي في اللوامع: هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة الاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق.
وقال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار لما قتل ابنه غيلة بالمدينة الشريفة وما وعظته به اليهود في الكف عن إخراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش: فصدقهم وتبع دينهم، وذلك قبل نسخه، وقال عن الرقاشي: امن تبع بالنبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث بسبعمائة عام، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تسبوا تبعًا فإنه كان رجلًا صالحًا.
ولما كان ذلك في سياق التهديد بالأهلاك لأجل مخالفتهم، وكان الأهلاك لذلك إنما كان لبعض من تقدم زمانهم لا لجميع الخلق، أدخل الجار فقال: {والذين من قبلهم} أي من مشاهير الأمر كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد.